.ذكر قتل الأمين:
لما دخل محمد إلى مدينة المنصور، واستولى طاهر على أسواق الكرخ وغيرهأن كما تقدم، وقر بالمدينة، علم قواده وأصحابه أنهم ليس لهم فيها عدة الحصر، وخافوا أن يظفر بهم طاهر، فأتاه محمد بن حاتم بن الصقر، ومحمد بن إبراهيم بن الأغلب الإفريقي، وغيرهمأن فقالوا: قد آلت حالنا إلى ما ترى، وقد رأينا رأياً نعرضه عليك، فانظر واعزم عليه، فإنا نرجوأن يجعل الله فيه الخيرة.قال: وما هو؟ قالوا: قد تفرق عنك الناس، وأحاط بك عدوك، وقد بقي معك من خيلك سبعة آلاف فرس من خيارهأن فنرى أن نختار ممن عرفناه بمحبتك من الأبناء سبعة آلاف، فتحملهم على هذه الخيل، وتخرج ليلاً على باب من هذه الأبواب؛ فإن الليل لأهله، ولن يثبت لنا أحد إن شاء الله، فنخرج، حتى نلحق بالجزيرة والشام، فنفرض الفروض، ونجبي الخراج، ونصير في مملكة واسعة وملك جديد، فينصاع إليك الناس، وينقطع عن طلبك الجند ويحدث الله أموراً.فقال لهم: نعم ما رأيتم! وعزم على ذلك، وبلغ الخبر إلى طاهر، فكتب إلى سليمان بن المنصور، ومحمد بن عيسى بن نهيك، والسندي بن شاهك: والله لئن لم تردوه عن هذا الرأي لا تركت لكم ضيعة إلا قبضتهأن ولا يكون لي همة إلا أنفسكم.فدخلوا على الأمين، قد بلغنا الذي عزمت عليه، فنحن نذكرك الله في نفسك، إن هؤلاء صعاليك، وقد بلغ بهم الحصار إلى ما ترى، فهم يرون أن لا أمان لهم عند أخيك، وعند طاهر، لجدهم في الحرب، ولسنا نأمن إذا خرجت معهم أن يأخذوك أسيرأن أ يأخذوا رأسك، فيتقربوا بك ويجعلوك سبب أمانهم، وضربوا فيه الأمثال؛ فرجع إلى قولهم، وأجاب إلى طلب الأمان والخروج، فقالوا له: إمنا غايتك السلامة، واللهو، وأخوك يتركك حيث أحببت، ويجعل لك فيه كل ما يصلحك، وكل ما تحب وتهوى، وليس عليك منه بأس ولا مكروه. فركن إلى ذلك، وأجاب إلى الخروج إلى هرثمة بن أعين.فدخل عليه أولئك النفر الذين أشاروا بقصد الشام، وقالوا: إذا لم تقبل ما أشرنا به عليك، وهوالصواب، وقبلت من هؤلاء المداهنين، فالخروج إلى طاهر خير لك من الخروج إلى هرثمة؛ فقال: أنا أكره طاهرأن لأني رأيت في منامي كأني قائم على حائط من آجر شاهق في السماء عريض الأساس، لم أر مثله في الطول والعرض، وعلي سوادي، ومنطقي، وسيفي، وكان طاهر في أصل ذلك الحائط، فما زال يضربه حتى سقط، وسقطت، وطارت قلنسوتي عن رأسي، فأنا أتطير منه، وأكرهه وهرثمة مولانأن وهوبمنزلة الوالد، وأنا أشد أنساً به وثقة إليه.فأرسل يطلب الأمان، فأجابه هرثمة إلى ذلك، وحلف له أنه يقاتل دونه إن هم المأمون بقتله، فلما علم ذلك طاهر اشتد عليه، وأبى أن يدعه يخرج إلى هرثمة، وقال: هوفي جندي والجانب الذي أنا فيه، وأنا أحرجته، بالحصار، حتى طلب الأمان، فلا أرضى أن يخرج إلى هرثمة فيكون له الفتح دوني.فلما بلغ ذلك هرثمة والقواد اجتمعوا في منزل خزيمة بن خازم، وحضر طاهر وقواده، وحضر سليمان بن المنصور، والسندي، ومحمد بن عيسى بن نهيك، وأداروا الرأي بينهم، وأخبروا طاهراً أنه لا يخرج إليه أبدأن وأنه إن لم يجب إلى ما سأل لم يؤمن إلا أن يكون الأمر مثله أيام الحسين بن علي بن عيسى ماهان. وقالوا: أنه إن يخرج إلى هرثمة بدنه، ويدفع إليك الخاتم والقضيب، والبردة وذلك هوالخلافة، فاغتمن هذا الأمر ولا تفسده! فأجاب إلى ذلك رضي به.ثم إن الهرش لما علم بالخبر أراد التقرب إلى طاهر، فأخبره أن الذي جرى بينهم مكر، وأن الخاتم والقضيب والبردة تحمل مع الأمين إلى هرثمة، فاغتاظ منه، وجعل حول قصر أم الأمين، وقصور الخلد، قوماً معهم العتل، ولم يعلم بهم أحد؛ فلما تهيأ الأمين للخروج إلى هرثمة، عطش قبل خروجه عطشاً شديداً فطلب له في خزانة الشراب ماء، فلم يوجد، فلما أمسى، ليلة الأحد، لخمس بقين من محرم سنة ثمان وتسعين ومائة، خرج بعد العشاء الآخرة إلى صحن الدار، وعليه ثياب بيض، وطيلسان أسود، فأرسل إليه هرثمة: وافيت للميعاد لأحملك، ولكني أرى أن لا تخرج الليلة، فإني قد رأيت على الشط أمراً قد رابني، وأخاف أن أغلب، وتؤخذ من يدي، وتذهب نفسك ونفسي، فأقم الليلة، حتى أستعد وآتيك الليلة القابلة، فإن حوربت حاربت دونك.فقال الأمين للرسول: ارجع إليه، وقل له لا يبرح، فإني خارج إليه الساعة لا محالة، ولست أقيم إلى غد.وقلق، وقال: قد تفرق عني الناس من الموالي والحرس وغيرهم، ولا آمن إن انتهى الخبر إلى طاهر أن يدخل عليّ فيأخذني؛ ثم دعا بابنيه، فضمهما إليه، وقبلهمأن وبكى، وقال: أستودعكما الله، عز وجل، ودمعت عيناه، فمسح دموعه بكمه، ثم جاء راكباً إلى الشط، فإذا حراقة هرثمة، فصعد إليها.فذكر احمد بن سلام، صاحب المظالم، قال: كنت مه هرثمة في الحراقة، فلما دخلها الأمين قمنا له، وجثا هرثمة على ركبتيه، واعتذر إليه من نقرس به، ثم احتضنه، وضمه إليه، وجعله إلى حجره، وجعل يقبل يديه ورجليه وعينيه، وأمر هرثمة بالحراقة أن تدفع، إذ شد علينا أصحاب طاهر في الزواريق، وعطعطوأن ونقبوا الحراقة، ورموهم بالآجر والنشاب، فدخل الماء إلى الحراقة، فغرقت، وسقط هرثمة إلى الماء، وسقطنأن فتعلق الملاح بشعر هرثمة فأخرجه، وأما الأمين فإنه لما سقط إلى الماء شق ثيابه وخرج إلى الشط، فأخذني رجل من أصحاب طاهر، وأتى بي رجلاً من أصحاب طاهر، وأعلمه أني من الذين خرجوا إلى الحراقة، فسألني من أنا؟ فقلت أنا أحمد بن سلام، صاحب المظالم، مولى أمير المؤمنين، قال: كذبت، فاصدقني! قلت: قد صدقتك. قال: فما فعل المخلوع؟ رأيته وقد شق ثيابه؛ فركب، وأخذني معه أعدوأن وفي عنقي حبل، فعجزت عن العدو، فأمر بضرب عنقي، فاشتريت نفسي منه بعشرة آلاف درهم، فتركني في بيت، حتى يقبض المال، وفي البيت بواري وحصر مدرجة ووسادتان.فلما ذهب من الليل ساعة، وإذا قد فتحوا الباب، وأدخلوا الأمين، وهوعريان، وعليه سراويل، وعمامة، وعلى كتفه خرقة خلقة، فتركوه معي، فاسترجعت وبكيت فيما بيني وبين نفسي؛ فسألني عن اسمي فعرفته، فقال: يا أحمد! ما فعل أخي؟ قلت: حي هو. قال: قبح الله بريدهم، كان يقول: قد مات شبه المعتذر من محاربته؛ فقلت: بل قبح اله وزراءك؛ فقال: ما تراهم يصنعون بي، أيقتلونني أم يفون لي بأمانهم؟ فقلت: بل يفون لك.وجعل يضم الخرقة على كتفه، فنزعت مبطنة كانت عليّ، وقلت: ألق هذه عليك! فقال: دعني، فهذا من اله، عز وجل، في مثل هذا الموضع خير كثير.فبيمنا نحن كذلك، إذا دخل علينا رجل، فنظر في وجوهنأن فاستثبتهأن فلما عرفته انصرف، وإذا هومحمد بن حميد الطاهري، فلما رأيته علمت أن الأمين مقتول؛ فلما انتصف الليل فتح الباب، ودخل الدار قوم من العجم معهم السيوف مسلولة، فلما رآهم قام قائمأن وجعل يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهبت، والله، نفسي في سبيل الله، أما من مغيث، أما من أحد من الأبناء؟ وجاؤوأن حتى وقفوا على باب البيت الذي نحن فيه، وجعل بعضهم يقول لبعض: تقدم، ويدفع بعضهم بعضأن وأخذ الأمين بيده وسادة، وجعل يقول: ويحكم! أنا ابن عم رسول الله، أنا ابن هارون، أنا أخوالمأمون، الله الله في دمي.فدخل عليه رجل منهم فضربه بالسيف ضربة وقعت في مقدم رأسه، وضربه الأمين بالوسادة على وجهه، وأراد أن يأخذ السيف منه، فصاح: قتلني! قتلني! فدخل منهم جماعة فنخسه واحد منهم بالسيف في خاصرته، فركبوه، فذبحوه ذبحاً من قفاه، وأخذوا رأسه، ومضوا به إلى طاهر، وتركوا جثته.فلما كان السحر أخذوا جثته، فأدرجوها في جل وحملوهأن فنصب طاهر الرأس على برج، وخرج أهل بغداد للنظر، وطاهر يقول: هذا رأس المخلوع محمد.فلما قتل ندم بغداد وجند طاهر على قتله، لما كانوا يأخذون من الأموال، وبعث طاهر برأس محمد إلى أخيه المأمون مع ابن عمه محمد بن الحسين بن مصعب، وكتب معه بالفتح، فلما وصل أخذ الرأس ذوالرياستين فأدخله على ترس، فلما رآه المأمون سجد، وبعث معه طاهر بالبردة والقضيب والخاتم.ولما بلغ أهل المدينة أن طاهراً أمر مولاه قريشاً فقتله، قال شيخ من أهل المدينة: سبحان الله! كنا نروي أنه يقتله قريش، فذهبنا إلى القبيلة فوافق الاسم الاسم.ولما قتل الأمين نودي في الناس بالأمان، فأمن الناس كلهم، ودخل طاهر المدينة يوم الجمعة، فصلى بالناس، وخطب للمأمون، وذم الأمين، وكتب إلى المعتصم، وقيل إلى ابن المهدي: أما بعد فإنه عزيز عليّ أن أكتب إلى رجل من أهل بيت الخلافة بغير التأمير، ولكنه بلغني أنك تميل بالرأي، وتصغي بالهوى إلى الناكث المخلوع، فإن كان كذلك، فكثير ما كتبت إليك، وإن كان غير ذلك، فالسلام عليك، أيها الأمير، ورحمة الله وبركاته.ولما قتل الأمين قال إبراهيم بن المهدي يرثيه:
عوجاً بمعنى الطلل الداثر ** بالخلد ذات الصخر والآجروالمرمر المنسوب يطلى به ** والباب باب الذهب الناضرعوجاً بها فاستيقنا عندها ** على يقين قدرة القادروأبلغا عني مقالاً إلى ** المولى على المأمور والآمرقولاً له يابن أبي الناصر ** طهر بلاد الله من طاهرلم يكفه أن حز أوداجه ** ذبح الهدايا بمدى الجازرحتى أتى سيحب أوداجه ** في شطن هذا مدى السائرقد برد الموت على جنبه ** فطرفه منكسر الناظرفلما بلغ المأمون قوله اشتد عليه.
.ذكر صفة الأمين وعمره وولايته:
قيل إن محمداً ولي يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين ومائة، وقتل ليلة الأحد لست بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة؛ وكنيته أبوموسى، وقيل أبوعبد الله.وهوابن الرشيد هارون بن أبي عبد الله المهدي بن أبي جعفر المنصور، وأمه زبيدة ابنة جعفر الأكبر ابن المنصور؛ وكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر وخمسة أيام، وقيل كانت ولايته النصف من جمادى الآخرة، وكان عمره ثمانياً وعشرين سنة. وكان سبطأن أنزع، صغير العينين، أقنى، جميلأن طويلأن عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين، وكان مولده بالرصافة.ولما وصل خبر قتله إلى المأمون أذن للقواد، وقرأ الفضل بن سهل الكتاب عليهم، فهنأوه بالظفر ودعوا له. وكتب إلأى طاهر وهرثمة بخلع القاسم المؤتمن من ولاية العهد، فخلعاه في شهر ربيع الأول من هذه السنة.وأكثر الشعراء في مراثي الأمين وهجائه، تركنا أكثره لأنه خارج عن التاريخ، ففما قيل في مراثيه قول الحسين بن الضحاك، وكان من ندمائه، وكان لا يصدق بقتله، ويطمع في رجوعه:
يا خير أسرته وإن زعموا ** إني عليك لمثبت أسفالله يعلم أن لي كبداً ** حري عليك ومقلة تكفولئن شجبت لما رزئت به ** إني لأضمر فوق ما أصفهلا بقيت لسد فاقتنا ** أبداً وكان لغيرك التلففلقد خلفت خلائفاً سلفوا ** ولسوف يعوز بعدك الخلفلا بات رهطك بعد هفوتهم ** إني لرهطك بعدها شنفهتكوا بحرمتك التي هتكت ** حرم الرسول ودونها السجفونبت أقاربك التي خذلت ** وجميعها بالذل معترفتركوا حريم أبيهم نفلاً ** والمحصنات صوارخ هتفأبدت مخلخلها على دهش ** أبكارهن ورنت النصفسلبت معاجزهن واختلست ** ذات النقاب ونوزع الشنففكأنهن خلال منتهب ** در تكشف دونه الصدفسلك تخوف نظموقدر ** فوهي وصرف الدهر مختلفهيهات بعدك أن يدوم لنا ** عز وأن يبقى لنا شرفأفبعد عهد الله تقتله ** والقتل بعد أمانه سرففستعرفون غداً بعاقبة ** عز الإله فأوردوا وقفوايا من تخون نومه أرق ** هدت الشجون وقلبه لهفقد كنت لي أملاً غنيت به ** فمضى وحل محله الأسفمرج النظام وعاد منكرنا ** عرفاً وأنكر بعده العرفوالشمل منتشر لفقدك والدن ** يا سدى والباب منكشفوقال خزيمة بن الحسن يرثيه على لسان أمه زبيدة، وتخاطب المأمون، وكنية زبيدة أم جعفر:
لخير إمام قام من خير عنصر ** وأفضل سام فوق أعواد منبرلوارث علم الأولين وفهمهم ** وللملك المأمون من أم جعفركتبت وعيني مستهل دموعها ** إليك ابن عمي من جفوني ومحجريوقد مسني ضر وذل كآبة ** وأرق عيني يابن عمي تفكريوهمت لما لا قيت بعد مصابه ** فأمري عظيم منكر جد منكرسأشكوالذي لاقيته بعد فقده ** إليك شكاة المستضيمالمقتروأرجولما قد مر بي مذ فقدته ** فأنت لبثي خير رب مغيرأتى طاهر لا طهر الله طاهراً ** فما طاهر فيما أتى بمطهرفأخرجني مكشوفة الوجه حاسراً ** وأنهب أموالي وأخرب أدورييعز على هارون ما قد لقيته ** وما مر بي من ناقص الخلق اعورفإن كان ما أبدى بأمر أمرته ** صبرت لأمر من قدير مقدرتذكر أمير المؤمنين قرابتي ** فديتك من ذي حرمة متذكرفلما قرأها المأمون بكى، وقال: أنأن والله، الطالب بثأر أخي، قتل الله قتلته.ولقد أسرف الحسين بن الضحاك في مراثي الأمين، وذم المأمون، فلهذا حجبه المأمون عنه، ولم يسمع مديحه مدة، ثم أحضره يومأن فقال له: أخبرني! هل رأيت يوم قتل أخي هاشمية قتلت وهتكت؟ قال: لا! قال: فما قولك:
ومما شجا قلبي وكفكف عبرتي ** محارم من آل النبي استحلتومعتوكة بالخلد عنها سجوفها ** كعاب كقرن الشمس حين تبدتإذا خفرتها روعة من منازع ** لها المرط عاذت بالخشوع ورنتوسرب ظباء من ذؤابة هاشم ** هتفن بدعوى خير حي وميتأرد يداً مني إذا ما ذكرته ** على كبد حرى وقلب مفتتفلا بات ليل الشامتين بغبطة ** ولا بلغت آمالها ما تمنتفقال: يا أمير المؤمنين! لوعة غلبتني، وروعة فاجأتني، ونعمة سلبتها بعد أن غمرتني، وإحسان شكرته فانطفقني، وسيد فقدته فأقلقني، فإن عاقبت فبحقك، وإن عفوت فبفضلك.فدمعت عين المأمون وقال: قد عفوت عنك، وأمرت بإدرار أرزاقك عليك، وعطائك ما فاتك متمماً وجعلت عقوبة ذنبك امتناعي من استخدامك.ثم إن المأمون رضي عنه وسمع مديحه، ومما قيل في هجائه:
لم نبكيك، لماذا؟ للطرب ** يا أبا موسى، وترويج العبولترك الخمس في أوقاتها ** حرصاً منك على ماء العنبوشنيف أنا لا أبكي له ** وعلى كوثر لا أخشى العطبلم تكن تعرف ما حد الرضى ** لا ولا تعرف ما حد الغضبلم تكن تصلح للملك ولم ** تعطك الطاعة بالملك العربلم نبكيك؟ لما عرضتنا ** للمجانيق وطوراً للسلبفي عذاب وحصار مجهد ** سدد الطرق، فلا وجه الطلبزعموا أنك حي حاشر ** كل من قد قال هذا فكذبليته قد قاله في وجدة ** من جميع ذاهب حيث ذهبأوجب الله علينا قتله ** وإذا ما أوجب الأمر وجبكان والله علينا فتنة ** غضب الله عليه وكتبوقيل فيه غير ذلك تركنا ذكره خوف الإطالة.
.ذكر بعض سيرة الأمين:
لما ملك الأمين وكاتبه المأمون، وأعطاه بيعته، طلب الخصيان وأباعهم وغالى فيهم، فصيرهم لخلوته ليله ونهاره،وقوام طعامه وشرابه، وأمره ونهيه، وفرض لهم فرضاً سماهم الجرادية، وفرضاً من الحبشان سماهم الغرابية، ورفض النساء الحرائر والإماء، حتى رمي بهن، وقيل فيه الأشعار، فمما قيل فيه:
ألا أيها المثوى بطوس ** عزيباً ما نفادي بالنفوسلقد أبقيت للخصيان هقلاً ** تحمل منهم شوم البسوسفأما نوفل فالشأن فيه ** وفي بدر، فيا لك من جليسوما للمعصمي شيء لديه ** إذا ذكروا بذي سهم خسيسوما حسن الصغير أخس حالاً ** لديه عند مخترق الكؤوسلهم من عمره شطر وشطر ** يعاقر فيه شرب الخندريسوما للغانيات لديه حظ ** سوى التقطيب بالوجه العبوسإذا كان الرئيس كذا سقيماً ** فكيف صلاحنا بعد الرئيسفلوعلم المقيم بدار طوس ** لغز على المقيم بدار طوسثم وجه إلأى جمع البلدان في طلب الملهين، وضمهم إليه، وأجرى عليهم الأرزاق، واحتجب عن أخويه وأهل بيته، واستخف بهم وبقواده، وقسم ما في بيوت الأموال، وما بحضرته من الجواهر في خصيانه، وجلسائه، ومدثيه، وأمر ببناء مجالس لمنزهاته، ومواضع خلواته ولهوه ولعبه، وعمل خمس حراقات في دجلة على صورة الأسد، والفيل، والعقاب، والحية، والفرس، وأنفق في عملها مالاً عظيمأن فقال أبونواس في ذلك:
سخر الله للأمين مطايا ** لم تسخر لصاحب المحرابفإذا ما ركابه سرن براً ** سار في الماء راكباً ليث غابعجب الناس إذا رأوك على صو ** رة ليث تمر مر السحابسبحوا إذا رأوك سرت عليه ** كيف لوأبصروك فوق العقابذات زور ومنسر وجناحي ** ن اشق العباب بعد العبابتسبق الطير في السماء إذا ما ** استعجلوها بحية وذهابقال الكوثر: أمر الأمين أن يفرش له على دكان في الخلد يومأن ففرش عليها بساط زرعي، ومنارق، وفرش مثله، وهيئ من آنية الذهب والفضة والجواهر أمر عظيم، وأمر قيمة جواريه أن تهيئ له مائة جارية صانعة، فتصعد إليه عشراً عشراً بأيديهن العيدان، يغنين بصوت واحد، فأصعدت إليه عشراً فاندفعن يغنين بصوت واحد:
هم قتلوه كي يكونوا مكانة ** فكما غدرت يوماً بكسرى مرازبةفسبهن وطردهن، ثم أمرها فأصعدت عشراً غيرهن فغنينه:
من كان مسروراً بمقتل مالك ** فليأت نسوتنا بوجه نهارففعل مثل ما فعله، وأطرق طويلأن ثم قال: أصعدي عشرأن فأصعدتهن فغنين:
كليب لعمري كان أكثر ناصراً ** وأيسر جرماً منك ضرج بالدمفقام من مجلسه، وأمر بهدم الدكان، تطيراً مما كان.قيل وذكر محمد الأمين عند الفضل بن سهل بخراسان، فقال: كيف لا يستحل قتل محمد وشاعره يقول في مجلسه:
ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر ** ولا تسقني سراً فقد أمكن الجهرفبلغت القصة الأمين، فحبس أبا نواس؛ ولم نجد في سيرته ما يستحسن ذكره من حلم، أومعدله، أوتجربة، حتى نذكرهأن وهذا القدر كاف.